dimanche 29 mai 2016

الرّسّام رؤوف قارة: رحلة النّورس و"البوسيدونيا"

الرّسّام رؤوف قارة
رحلة النّورس و"البوسيدونيا"





يقول الشّاعر عبد الباسط بن حسن، وهو شاعرٌ قبل أن يكونَ رئيسًا للمعهد العربيّ لحقوق الإنسان، يقول في قصيدته "احتباس" المنشورة ضمن ديوانِه: "تجري في عيون أوقاتِنا"[1]:

"سنسبح اليومَ في هذا البحرِ الخريفيّ،
قال رؤوف قارة
وهو يُلوّح لي بـ "مايوه" عجيب
يَسَعُ كلَّ البحار".

ثمّ يكتب الشّاعرُ ملاحظةً في هامش الصّفحة للتّعريف برؤوف قارة قائلا: "هو رسّامُ حالات البحر في تونس". وهو أوجَزُ تعريفٍ قرأتُه لرؤوف. ولستُ أدري هل سيفرح رؤوف بهذا الإيجازِ في التّعريف إن قرأه؟ أم سيسخط عليه ويعتبرُه مُخِلاًّ؟ إذ هل يُعقَلُ أنْ تُختصَرَ تجربتُه الفنّيّةُ الكبيرةُ وتُقيَّدَ بكلمتيْن أو ثلاثٍ؟
ومهما يكنْ من أمرٍ فإنّ جولاتِ رؤوف وسباحاتِه في شواطئ قليبية وحمّام الأغزاز كثيرةٌ لا تُحصَى، وهي ليست خريفيّةً فقط كما يمكن أن نفهمَها من القصيدة، بل هي مستمرّة كالحياة، خريفيّةٌ وشتويّةٌ وربيعيّةٌ وصيفيّةٌ... ولعلّها تتمُّ أيضا في فصولٍ أخرى لا نعرفها، وفي حالات بحريّة ليس يقدِرُ على فهمِها سوى رؤوف، رسّام حالاتِ البحر في تونس، وصاحب "المايوه" الذي يَسعُ كلَّ بحار العالم.
قد يكونُ اختيارُ الشّاعِر لزمنِ الخريف اختيارًا اعتباطيًّا. ولكنَّ جولة رؤوف مع الشّاعر هنا كانت حتمًا ذاتَ خريفٍ. يزيدُ من تحقيق ذلك وتأكيدِه وُجودُ قرينتيْن في نصّ القصيدة دالّتيْنِ عليه، مانِعتَيْن مِن إرادةِ أيِّ فصلٍ آخرَ، إذ يُواصل عبد الباسط قائلاً:

"على شاطئ حمّام الأغزاز
أعشابٌ بحريَّةٌ مُرهَقَةٌ
صيّادونَ يَختبِرونَ لُغاتِ الصّبر
ورِمالٌ تنتَظِرُ مثلَ كلِّ يومٍ وداعَ القواربِ".

القرينةُ الأولى الدّالّةُ على الخريف هي "الأعشابُ البحريّةُ المُرهَقةُ" التي تخرج في ذلك الفصلِ بكمّيّات هامّة، وهي بالتّحديد نبتةُ "الضّريع". والقرينة الثّانية هي أولئك "الصّيّادون" الذين "يختبرونَ لُغاتِ الصّبرِ". والمقصودُ بهم هنا هم صيّادو "الطّرّاح"[2] الذين يرقبون أسماك "المجّل"[3] التي تهجُم مثل "الضّريع" في كلّ خريفٍ.

رؤوف و"الضّريع" La posidonie (Posidonia oceanica) 

الضّريع (أو البوسيدونيا) هو نبات بحريّ خاصّ بالبحر الأبيض المتوسّط دون غيره من البحار، والعُهدةُ في ذلك على أهل العلمِ والذّكرِ الذين نقلوا إلينا هذه المعلومةَ. ومثله في البحر كمثل شجرة الزّيتون في البرّ، كلاهما مرتبط بالجغرافية المتوسّطيّة. وقد ذُكرت هذه النّبتة (أو على الأقلّ بهذا الاسم) في القرآن باعتبارها غذاءً عديمَ القيمة: "ليس لهم طعامٌ إلا من ضريع، لا يُسمِنُ ولا يُغنِي مِنْ جُوعٍ" (الغاشية: 6- 7). واختلف المفسّرون في تحديد هذه النّبتة، فمعظمهم اعتبرها نباتا برّيًّا، لكنّنا نجد روايةً يتيمةً منفرِدةً عن ابن عبّاس أوردَها القرطبيّ في تفسيرِه، تقول: "هو شيء يرمي به البحرُ، يُسمّى الضّريع، من أقوات الأنعام لا النّاس، فإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع، وهلكت هزلاً"[4]. وربّما كانَت تسميةُ تلك النّبتة البحريّة بالذّات بـ"الضّريع" قياسًا على نبتة البرّ في كلّ نباتٍ لا حاجَةَ للإنسانِ به، وهو "لا يُسمن ولا يُغني من جُوعٍ".
ولعلّ انفرادَ القرطبيّ في إيرادِ هذا التّفسير البحريّ للكلمة يرجع إلى بيئتِه الأندلسيّة، فهو اسبانيّ متوسّطيّ قبل أن يكون رجلَ دينٍ مُفسِّرا للقرآن، ومدينة قرطبة التي وُلد بها في القرن الثّالث عشر الميلاديّ لا تبعد عن البحر المتوسّط كثيرا.
عندما يستوي "الضّريعُ" على سُوقِه في أعماقِ المتوسّط، يكونُ ذا لونٍ أخضرَ لامِعٍ، لكنّه يذبُل تدريجيّا في فصل الصّيف فيفقد اخضرارَه ونضارتَه وصلابتَه شيئا فشيئا إلى أن يُصبِحَ أسودَ أو بُنّيّا يميلُ إلى السّواد. ثمّ تأتي رياحُ الخريف وتيّاراتُه البحريّةُ وأمواجُه المُزبِدةُ لتقطعَ ما وهن منه وتذهب به بعيدًا في رحلةٍ متوسّطيّة تنتهي به إلى ضفاف الشّواطئ، حيث يلفظُه البحرُ ويضعُه في شكلِ أكداسٍ كبيرة كالتِّلال. يحدُث له ما يحدثُ في البرِّ لأوراق الشّجر في الخريف.
يستخدم النّاسُ في الوطن القبليّ "الضّريع" بعد أن يتكدَّسَ على الشّواطئ ويجفَّ تحت الشّمس والهواء، وذلك في بعض الحاجيات والأغراض، كتخزين أكداس البطاطا أو ملء الحشايا والوسائد والسّروج ونحوها...أمّا رؤوف قارة فله فيه مآرِبُ أخرى...

يقولُ العلماءُ (والعُهدَةُ دائما عليهم) أنّ "الضّريع" يكوّن نظاما بيئيّا له على الإنسان والحيوانِ والأرضِ أفضالٌ كثيرة، فهو يساهم في تخزين الكاربون وحماية الشّواطئ من الانجراف. كما يجدُ فيه السّمكُ طعاما سائغًا وملاذًا آمِنا يضعُ فيه بيضَه، لتستمرَّ الحياة...
تتكوّن النّبتة الملتصِقةُ بحجارة الأعماق من جذاميرَ (جمع جُذمور Rhizome) وهي سوقٌ (جمع ساق: Tige) ملتحِمةٌ بالقاعِ أُفُقيًّا وتشُدُّها بالأرضِ جذورٌ من ناحيتِها السُّفلَى، متفرِّقةٌ على امتداد هذه السّوق، ومِن ناحيتِها العُليا تنبُتُ الجذوعُ التي تخرُجُ منها الأوراقُ الخضراءُ. أمّا الجذوعُ فتذبلُ وتسقُطُ ويكونُ مصيرُها كالأوراق، وتُسمَّى عندنا "القبيون" بالقاف المعقودة. وأمّا الجذاميرُ فتموتُ ولكنّها تبقى عالقةً بالأرضِ، ثمّ تتحجّرُ بفعل تراكم طبقةٍ مِن رمل الصّوّان عليها (La silice)، وتصبح بعد آلاف السّنين أحافيرَ أو مُستحاثاتٍ (Fossiles) يلتقِطُها رؤوف ويعيدُ تجميعَ ما تناثر منها وتكسّرَ، فتتشكّلُ عملا فنّيًّا خالدا خلودَ الحياةِ المُستمرّة...
"البوسيدونيا" لم تعدْ عديمةَ الفائدة إذن، فهي تُسمِن وتُغني مِن جُوعِ الفنّانِ وشهوتِه وإنْ تحجّرت وطالَ انتظارُها آلافَ السّنين.

النّورسُ المكسور الجناح:
يستخدِم عبد الباسط بعد ذلك كلمةَ الجوعِ في قولِه:
"وذلك النّورسُ المريضُ
لم يهربْ عند قُدومِنا.
في أجنِحتِه المُنكسِرةِ ماتتْ تهويماتُ ذاكِرةِ الفضاء.
سنحمِلُه إلى السِّباخِ يلتقِطُ قُوتَهُ،
قال رؤوف بطِيبتِه التي اختَبرتْ جُوعَ الألوانِ.
ولكنْ في حشرجاتِ النّورس المُحتضِر
ذاكِرةُ لغات صحبة
وعزاء".

ففي الرّحلة الخريفيّة، الكُلّ راحِلٌ ومُرْهَقٌ في رحيلِه. الشّاعِرُ والرّسّامُ و"البوسيدونيا" (أو الأعشابُ البحريّةُ المُرهقةُ التي قطعت آلافَ الكيلومترات والسّنين)، وصيّادو "الطّرّاح" أتعبهمْ الصّبرُ والانتظارُ، وأخيرًا النّورسُ الجريح الذي رأى فيه رؤوف نفسَه حينما "تجوع للألوانِ"، فأشفقَ عليه واقترحَ حملَه إلى السّبخة ليلتقِطَ قوتَه لعلّه يتعافى فينطلقُ مواصِلا رحلتَه.
إنّ طيورَ النّورسِ تخرُجُ من وُكُناتِها فجرًا في جزيرةٍ من جُزُر اليونان أو إيطاليا أو لعلّها زمبرة أو زمبرتا أو جالطة... فتطوفُ آلافَ الكيلومتراتِ بحثا عن قوتِها وقوتِ فراخِها، ثمّ تعودُ في آخرِ النّهارِ بعد انتهاء الرّحلة إلى حيثُ كانت.

يقولُ لنا العُلماءُ (والعُهدة على الويكيبيديا الفرنسيّة هذه المرّة) إنّ طائرَ النّورس تعود تسميتُه الفرنسيّة (Goéland) إلى كلمة ( gwelan أو  gouelañ) وهي في اللّغة البريتانيّة السّلتيّة بجنوب فرنسا تعني (بَكى : Pleurer)[5] فلعلّه سُمّي كذلك لأنّه مجبولٌ على البكاء وصوتُه كأنّه النّحيبُ. وقد اختار الشّاعرُ كلمة "حشرجة" وهي كما جاء في المعجمِ من فعلِ "حشْرَجَ: ردَّدَ نَفَسَهُ في حَلْقِه. ويُقال: حشرجَ المُحتضَرُ عند الموتِ"[6]

لا أدري لماذا ذكّرتني صورةُ رؤوف مع النّورس الجريح بصورةِ الشّاعر عنترة بن شدّاد مع جوادِه الجريح في المعلّقة رغم الاختلافات الممكنة بين العالميْن:

فاِزْوَرَّ  مِنْ  وَقْعِ  القَـــنا  بِــــلَبَانِـه       وشكا  إليَّ  بِعبرَةٍ  وتحمْحُمِ
لو كانَ يَدْرِي ما المُحاورَةُ اِشْتَكَى        وَلَكَانَ لَوْ عَلِمَ الكلامَ مُكَلِّمِي

لكنّ رؤوفا فهمَ جيّدا محاورةَ النّورسِ واستبطنَ مشاعرَه وعرفَ قصدَه ومرادَه وشكواهُ. فكلاهما مسافِرٌ ومُرتحِلٌ ومُحلِّقٌ في سماء الحرّيّة. ولا يمكنُ السّفرُ والرّحيلُ في غياب الجناحيْن. لا سفَرَ إلاّ بالجناحيْن. ولا حياةَ إلاّ بالحرّيّة.

سافرَ رؤوف قارة واقتفَى آثارَ النّورسِ من "شبه جزيرة" الوطن القبليّ إلي جُزر البحر الأبيض المتوسّط، من إيطاليا واليونان واسبانيا، ثمّ سافر إلى ألمانيا، وأقامَ ستّةَ أشهرٍ من عمرِه في جُزرِ اليابان. وقد نهل في كلّ مكانٍ يحُطُّ به من معينِ الفنّ، فغاصَ في أعماقِهِ وصعِدَ في عليائهِ وسكرَ من نبيذِه، وخبرَ مشارقَ الأرضِ ومغاربَها وسبرَ ألوانَها وأشكالَها، ونصبَ بها راياتِ لوحاتِه الفنّيّةِ وأعلامَها. ثمّ عادَ إلى "شبه جزيرتِه" ليجِدَ "البوسيدونيا" تنتظِرُه من آلافِ السّنين، وقد تحجّرت بفعل الصّبرِ والانتظارِ. تنتظرُه ليُعيدَ تشكيلَها من جديد فتواصِلَ رحلتَها الخالدة وتحلّق في سماء الفنّ، لأنّ الحياةَ يجبُ أن تستمرَّ...

جلسْتُ في ورشةِ رؤوف قارة المُطلّةِ على ميناء قليبية. أمامي الحاسوبُ وسفنُ الصّيد الدّاخلة والخارجة. بدأتُ أكتبُ هذا المقالَ ورؤوف في مكانٍ آخرَ من الورشةِ منشغِلٌ بإعدادِ لوحاتِه التي سيُشارِكُ بها في معرضٍ من معارِضِه. وهو لا يعرِفُ أنّي بصددِ كتابةِ هذا المقال، لأنّه في ذلك الوقتِ يُحلِّقُ كالنّورسِ عاليا في سماءِ فنِّه. وكانت الأغنيةُ التي نستمعُ إليها معا هي أغنية محمّد عبد الوهاب: "النّيل نجاشيّ" التي تقولُ في ما تقولُ:

"جات  الفلوكة والملّاح       ونزلنا وركبنا
حمامة بيضا بفرد جناح      تودّينا وتجيبنا
ودارت الألحان والرّاح     وسمعنا وشربنا
صلّحلي قلوعك يا ريّس
هيلا هوب هيلا".
مزار بن حسن



[1]   منشورات الجمل بغداد- بيروت 2015 ط1، ص 20- 21.
[2]  الطّرّاح (بالفرنسيّة:  Epervierبالإيطاليّة:  Rezzaglio وبالاسبانيّة: Esparavel) آلة صيد شبكيّة قديمة ومنتشرة في كثير من بلدان العالم بأشكال مختلفة. وتتشابه أشكالها وطرق استخدامها في سواحل المتوسّط. وهي من عادات سكّان بعض المناطق السّاحليّة في تونس وتقاليدهم الموروثة. ويخضع صيد الطّرّاح قانونيّا إلى ما يُسمّى: الصّيد البحريّ وقوفا على الأرجل " la pêche à pieds" باستعمال الشّباك، المنصوص عليه بالفصل الخامس من القانون عدد 13 لسنة 1994 مؤرخ في 31 جانفي 1994 يتعلّق بممارسة الصّيد البحريّ.
[3]  خلال منتصف شهر أكتوبر من كلّ سنة ينطلق موسم صيد "المِجّل"  Mugil وهو سمك يعيش على امتداد سواحل البحر الأبيض المتوسّط، وينتمي إلى فصيلة البوريّات: Mugilidae وتُعتَبَر الطّرّاح قديما الوسيلةَ المثاليّة لصيدِه، قبل أن يتطوّر الصّيد البحريّ وتتطوَّرَ معه أدواتُه. ورغم تناقص كمّيّات المجّل التي تمرّ عبر شريطنا السّاحليّ من سنة إلى أخرى نتيجة الصّيد العشوائيّ والتّلوّث... فإنّ "الطّرارحيّة" ما زالوا أوفياء لموعدهم الخريفيّ مع هذه السّمكة.
[6]  المعجم الوسيط: مجمع اللّفة العربيّة.

samedi 7 mai 2016

سيدي منصور

سيدي منصور



سيدي منصور حمّام الأغزاز لا علاقةَ له بسيدي منصور صفاقس.

 وهو ضريح لرجلٍ من حرس السّواحل لا نعرف إلى اليوم هُويَّته الحقيقيّة. ويبدو أنّ هذا الضّريحَ الموجودَ في قمّة الرّبوة الرّمليّة قد بُني على موقع أثريّ قديم كما يُشير الخبراء بمعهد التّراث، وتؤكّده الرّوايات الشّفويّة.

كان الغُزّيّة يزورون سيدي منصور يوم عاشوراء من كلّ سنة في أجواء احتفاليّة اعتقادًا لفضل هذا الوليّ في حراسة حمّام الأغزاز والجهة عموما.

مزار بن حسن

الصّورة القديمة أعلاه مصدرها المعهد الوطنيّ للتّراث:

jeudi 5 mai 2016

رجال الخرّوبة



رجال الخرّوبة

صورة من أواخر الثّمانينات. وهي من أكثر الصّور تعبيرا وتأثيرًا، إذْ يظهر فيها أحدُ الغُزّيّة (صاحب الصّورة) وهو يحملُ آخرَ ما تبقَّى مِن أثاث بيتهِ (مرفع) قبل أن تأتيَ الجرّافة لهدمِه.

"رجال الخرّوبة" الذي لم يبقَ منه أثرٌ اليومَ هو أقدمُ حيّ بحمّام الأغزاز، حيث يعود تاريخُ بنائه إلى القرن الثّامن عشر، وهو يجمع في هندستِه بين المعمار العربيّ والمعمار الإيطاليّ. وقد بناهُ الغُزّيّة بجانب مقبرة قديمة لا نعرف عن تاريخها شيئا سوى أنّ اسمَها: "رجال الخرّوبة"، وهي تشبه مكانا آخرَ في "هنشير الشّريف" (بين قليبية وحمّام الأغزاز) يُسمَّى "رجال الزّيتونة". كما لا نعرف أيضا أيّهما أسبق، الرّجال أم الشّجرة؟
تحيّة خاصّة إلى الرّجليْن الوحيدَيْن الذيْن فكَّرا في تصوير "رجال الخرّوبة" قبل فراقها إلى الأبد لنتمكَّنَ نحن اليومَ من رؤيتِها:

الأوّل هو صاحب الصّورة المرحوم حبيب بن عمر بن الحاج عليّ وقد شقّ عليه أن يرى بيتَ الأجداد يُسوَّى بالأرض.

الثّاني هو عبد الرّحمان الجنحاني شهر حيدود، الرّسّام الذي قضى طفولتَه في حمّام الأغزاز وبقي يُكنُّ لها حبَّا كبيرا إلى اليوم. وقد طلب من سائق الجرّافة أن يترقّبَ قليلا حتى يأتيَ بآلة التّصوير.

لمزيد الاطّلاع هذا مقال كتبته عن رجال الخروبة في جريدة "صوت الوطن القبليّ التّونسيّ" في 1 أوت 2012:

http://dimnaghozzya.blogspot.com/2012/08/blog-post_30.html

مزار بن حسن


المدرّعة الانجليزيّة




من رموز الشّريط السّاحليّ بحمّام الأغزاز التي ما زالت شاهدةً على مرور حدث عالميّ عظيم وهو الحرب العالميّة الثّانية بجوارنا: المدمّرة البريطانيّة "هافوك" (في 6 أفريل 1942)، وغير بعيد عنها في أعماق سيدي منصور أيضا السّفينة الحربيّة البريطانيّة "مانشستر" التي غرقت يوم 13 أوت 1942 بعد أن أصابتها سفن حربيّة إيطاليّة.

وقد علقت بـ"هافوك" أيضا سفينة صيد جزائريّة يوم 4 أكتوبر 2013 لتحلَّ محلَّها وتفتكَّ منها رمزيّتها بعد سبعين عاما من الصّمود.


 وتجدر الإشارة أنّ سيدي منصور أو "كاب ملاّح" هو منطقة صعبة مناخيّا بالنّسبة إلى البحّارة، فالمكان مليء بآثار السّفن الغارقة منذ أزمنة قديمة، وخاصة في نهاية القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين.


 ونذكر من هذه السّفن على سبيل المثال: "شقف الجّرابة" وهي سفينة شراعيّة تحمل اسم: "تونيزيا" وقد غرقت صبيحة يوم الأربعاء 18 أكتوبر 1911 بعد أن سافرت من ميناء حلق الوادي يوم الخميس 12 أكتوبر متّجهة إلى جربة وقد خرج منها الرّايس: شعبان بن جمعة بن بوزيد الجربي سالما مع 4 من طاقم السّفينة واثنيْن من الرّكّاب. أمّا البقيّة وهم تسعة ركّاب فقد غرقوا جميعا (ومنهم ابن الرّايس) ودُفنوا في مقبرة ستّي مريم في مكان مستقلّ يُسمَّى إلى اليوم "جبّانة الغرباء".

وإليكم هذا المقال عن المدمّرة "هافوك" الذي كنّا قد كتبناه ونشرناه يوم 28 أوت 2013 في "دمنة":

في يوم 6 أفريل من سنة 1942 جنحت الباخرة الحربية الانجليزية (أو المدمِّرة Destroyer) HMS Havock (H43) إلى شاطئ سيدي منصور وعلقت برماله معلنة انتهاء رحلتها التي لم تدم طويلا منذ تاريخ صنعها بمدينة Dumbarton السكتلندية يوم 16 جانفي 1937، وقد كلفت الجيش البريطاني آنذاك 248470 جنيها استرلينيا.

"هافوك" هي التسمية الجرمانية لكلمة: « Hawk » الانجليزية وتعني: طائر "الباز" أو "البرني". في حمام الأغزاز يُطلق عليها الآن اسم "المدرّعة" (Cuirassé) وقديما كانت تُسمّى "السكادرة" ((L’escadre. يبلغ طول هذه المدمِّرة 98.5 مترا وعرضها 10.1 مترا وترتفع عن سطح البحر 3.8 مترا. وتصل سرعتها إلى 68 كلم في الساعة رغم أنها قادرة على حمل 1913 طنا من الأسلحة والذخيرة والمؤونة.

بدأت رحلة "هافوك" مع الحرب الأهلية الاسبانية التي انتهت سنة 1939. كما ساهمت في ملاحقة السفن الألمانية في المحيط الأطلسي في الأيام الأولى من الحرب العالمية الثانية. ثم شاركت في "حملة النرويج" بين أفريل وجوان 1940 قبل أن تدخل إلى البحر الأبيض المتوسط لحماية مجموعة من السّفن المتّجهة إلى مالطة. كما شاركت أيضا في معارك أخرى في اليونان ومعركتي سرت الأولى والثانية (ديسمبر 1941- مارس 1942) وتعطبت مرات كثيرة لعلّ أكثرها خطورة هو الذي حصل يوم 3 أفريل 1942 جراء غارات جوية قامت بها قوات المحور. عندها قرر ربان السفينة: " Geoffrey Robert Gordon Watkins" أن ينتقل إلى "جبل طارق" لإصلاحها ومتابعتها هناك. لكنّ السّفينة جنحت به يوم الاثنين 6 أفريل 1942 وعلقت برمال سيدي منصور، وتحديدا في التموقع التالي: 36°52′18″N   11°8′24″E.

وعندما خرج النّاجون منها (وكلهم من الانجليز) اعتقلتهم قوات الجندرمة الفرنسية التي كانت تابعة آنذاك لحكومة "فيشي" الموالية للنّازيّين وعاملتهم معاملة سيّئة ثم قادتهم إلى سجن "الأغواط" بالجزائر ومكثوا هناك إلى أن استرجع الفرنسيون بلادهم من الاحتلال الألمانيّ.
وتُظهر الصورة الثالثة أعلاه أنّ السفينة تعرضت لتفجير في مقدمتها من الأسفل. وقد أكّدت لنا الروايات الشفوية التي يرويها لنا كبار السّنّ في حمام الأغزاز أنّ ربّان السفينة هو الذي قام بذلك بنفسه. كما أفادوا لنا أنّ الجزء الخلفي الذي يبدو في الصورة مستقلّا عن السفينة إنما هو مروحتها (Hélice) وقد انفصلت عن البقيّة.

وقد استغلّ شباب حمام الأغزاز آنذاك الفرصة للدخول إلى المدمّرة واستكشافها واستخراج ما بها من المعدّات والأسلحة والذخيرة لاستخدامها في ما بعد في الصيد البحري وفي عمليات مقاومة المستعمر. كما استُخرج منها الوقود بكميات كبيرة، باعتبار أنّ سعة خزّانها تصل إلى 480 طنّا من "المازوط" كما تقول المصادر المكتوبة. ومثلت أيضا موردا هاما للنحاس الذي كان مطلوبا في السوق السوداء آنذاك.


مزار بن حسن
المصادر:
الأرشيف الوطنيّ التّونسيّ
الصّورة أعلاه نشرتها صفحة حمّام الأغزاز وهي للسّينمائيّ الغُزّيّ: نضال بن حسين
https://www.youtube.com/watch?v=wpYtFhcfp1Y
https://en.wikipedia.org/wiki/HMS_Manchester_(15)

http://dimnaghozzya.blogspot.com/2013/08/hms-havrick-h43.html

mardi 3 mai 2016

حمّام الأغزاز: معقل الكرة الطّائرة الشّاطئيّة في تونس



مواكبةً لدورة حمّام الأغزاز للكرة الطّائرة الشّاطئيّة التّرشيحيّة لأولمبياد ريو 2016، تنشر "كاب ملاّح" يوميّا سلسلة من المقالات على امتداد أيّام الدّورة، بعضُها جديد وبعضها نُشر سابقا، مساهمة منّا في التّعريف بحمّام الأغزاز وعلاقة الغزّيّة بالبحر منذ القديم.


حمّام الأغزاز: معقل الكرة الطّائرة الشّاطئيّة في تونس
(أكثر من 20 سنةً)

المكان: شاطئ حمّام الأغزاز.
الزّمان: أوت 1996.
المناسبة: فوز حمّام الأغزاز بكأس دورة "حمّام الشّطّ" (1996).
الصّورة: في الوسط: المرحوم عماد بن حسن. على اليمين: حاتم بن الحاج صالح. على اليسار: حبيب بن الحاج عمر.
المصدر: نجيب بن عيسى
مزار بن حسن