jeudi 24 novembre 2016

عام البابور

عام البابور



"البابور" كلمة تُطلقُ في تونس على الباخرة أو المركب البُخاريّ (Vapeur) وقد دخلت هذه الكلمة إلى اللّهجة التّونسيّة منذ بداية انتشار استخدام المحرّكات البخاريّة في التّنقّل البحريّ في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر. فالتّونسيّون عرفوا أغنية الشّيخ الحرّازي: "بابور هزّ رقيّة" وأغنية "قدّك بابور.. صالحة" وغيرها من الاستعمالات في اللّغة اليوميّة.

وفي حمّام الأغزاز ما زال النّاسُ يُؤرّخون بعام "البابور"، أي عام غرق "البابور"، نظرًا لما ارتبط به من أحداث وحكايات تتناقلها الألسُنُ إلى اليوم. ويعتقدُ الكثيرون خَطأً أنّ "البابور" قد تكسّر في حمّام الأغزاز، ولكنّ البحثَ التّاريخيّ يُؤكِّدُ خلافَ ذلك.

فالباخرة المقصودة هنا هي الباخرة الإيطاليّة "Ancona" المخصَّصة لنقل الرّكّاب والبضائع، وقد خرجت من ميناء "مسّينا Messina" بإيطاليا يوم 6 نوفمبر 1915 مُتّجهةً إلى نيويورك وعلى متنها 525 بين مسافرين وأفراد الطّاقم. وفي اليوم الموالي (7 نوفمبر في حدود منتصف النّهار)، وصلت إلى نقطة "Méridien greenvich" الواقعة بين تونس وجزيرة سردينيا الإيطاليّة، فاعترضتها غوّاصتان نمساويّتان وأطلقتا عليها قذائف مدفعيّة ممّا جعلها تغرق بعد وقتٍ قصير. أمّا الرّكّاب فقد غرق منهم 269 ونجا 256 بعد أن تمكّنوا من ركوب قوارب النّجاة، وتوزّعوا على موانئ بنزرت وحلق الوادي ورادس وزمبرة وسيدي داود.

وقد كانت حادثة "Ancona" من بين الأسباب التي جعلت إيطاليا بعد ذلك تخرجُ من حيادِها في الحرب العالميّة الأولى وتلتحق بالوفاق الثّلاثيّ (فرنسا- بريطانيا- روسيا) ضد ألمانيا وحلفائها، بعد أن استنكر العالمُ كُلُّه هذا الاعتداء على المدنيّين العُزّل.

بعد أكثر من أسبوعيْن من هذه الحادثة، وبالتّحديد في ليلة الخامس والعشرين من نوفمبر (1915)، وبينما كان أهلُ حمّام الأغزاز مُبتهِجينَ بثلاث حفلاتِ زفاف في ليلة واحدة، جاء الخبرُ بأنّ البحرَ قذفَ السّلعَ التي كانت على متن "بابور Ancona" الغريق على امتداد الشّاطئ من الهواريّة إلى سيدي منصور. فتركَ النّاسُ الحفلةَ وهبّوا جميعًا لالتقاط ما يقذفه البحرُ. ولم يبقَ بالبلدة إلاّ النّساء والعِرسان والعرائس ومَن لا يقدر على الذّهاب.

وتُضيفُ الرّوايات الشّفويّةُ أنّ الحاج عليّ بن الحاج عمر ذهب إلى ولدَيْه العريسيْن (عمران واِمْحَمّد) وإلى العريس الثّالث (وهو مُحمّد بن حسن بن الحاج رحومة زوجُ ابنةِ أخيه) وقال لهم جميعًا: "النّساء ما همش هاربين، أما السّلعة باش تهرب عليكم، امشيوا لقّطو مع النّاس".

جمع النّاسُ ما استطاعوا مِن السّلع والبضائع. وكانت مُتنوّعة: "صابون- فرينة- حلويّات- شكلاطة- خمور- زبدة- أجبان...". وعندما سمعت السّلطة المحلّيّة بالخبر، أمرت أعوانَها بتجميع ما تبقّى من سلعٍ، ثمّ أعلنت عن بيعِها بالمزاد، فكانت من نصيب التّاجر الحاج خميّس تنبان، الذي باعَ الكيسَ من "الفرينة" بـ 17 فرنكا (مع العلم أنّ ثمن المرجع من الأرض الفلاحيّة السّقويّة آنذاك هو في حدود 200 فرنك).

أمّا الطّرائف التي صاحبت حدثَ "البابور" فهي كثيرة منها:

-        الشّكلاطة التي قذفها البحر كانت مُبلّلةً فوضعتها إحدى النّسوة على سطح الدّار حتّى تجفّ بحرارة الشّمس، فذابت وجرت عبر "الميزاب".
-        أحد الرّجال وجدَ برميلا خشبيّا كبيرًا من نبيذ العنب، فشرب منه حتّى سكر ونام في مكانِه، وعندما أفاق لم يجدْ شيئا ليحملَه إلى أهلِه.
-        حكاية "الفرينة" التي لم يعرفْها النّاسُ إلاّ عندما أكلت منها الأنعام، فهي صحيحة، لكنّها لم تقعْ في عام "البابور" بل وقعت في أكتوبر من سنة 1911 عند غرقِ مركب "الجرابة" الذي سأخصّص له مقالا مستقلاّ في وقت لاحق. مع العلم أنّ معظم سكّان البلاد التّونسيّة آنذاك لا يعرفون "الفرينة" البيضاء المرحيّة بالآلات الحديثة إلاّ عند العائلات الأوروبيّة وبعض العائلات التّونسيّة الميسورة.
مزار بن حسن

المصادر:
الأرشيف الوطنيّ التّونسيّ
روايات شفويّة
جرائد فرنسيّة (نوفمبر 1915)
http://transpressnz.blogspot.com/2013/12/steamer-ancona-1915.html

vendredi 8 juillet 2016

ثورةُ صاحب "القشابيّة": وفاءً لِرُوحِ شهيدِ قليبية "عبد العزيز الخوجة"

ثورةُ صاحب "القشابيّة":
وفاءً لِرُوحِ شهيدِ قليبية "عبد العزيز الخوجة"

مزار بن حسن



في ليلةٍ من ليالي رمضان 2016، كنَّا مجموعةً قليلةَ العددِ نجوسُ خلالَ ديارِ قليبية باحِثينَ عن منزلِ شهيد قليبية "عبد العزيز الخوجة". دَلفنا إلى "المدينة العربيّ" من جهة زاوية "سيدي بن عيسى" نتَّبِعُ خُطانا إلى حيثُ ستقودُنا. وفي غيابِ التّنوير العموميّ بالمكان، كانَ اللّيلُ قدْ ناء بكلكلِه وأظلمَ علينا إلاّ مِنْ ثلاثةِ أنوارٍ كانت لنا هُدًى ورحمَةً: نورُ صومعةِ مسجد "سيدي بن عيسى" الذي تركناهُ خلفنا، ونورُ صومعةِ جامع "سيدي بوضاوي" الذي يلوحُ أمامَنا(1) ونورُ قمرِ رمضانَ الذي تأخَّرَ طُلوعُهُ إلى حينِ مجيئنا.  ومِن حُسنِ حظِّنا فقد اهتديْنا إلى المنزِلِ بعدَ أنْ تراءتْ لنا حركةُ النّاسِ أمامَ بابِه مِن بعيدٍ.

لم أكُنْ أتصوَّرُ أنَّ سقيفةَ الدّارِ الضَّيِّقةَ ستُسفِرُ عن مثلِ هذا الفضاء الفسيحِ والمعمار التّقليديّ الرّائع الذي يُكوِّنُه. السّقيفةُ يليها مباشرةً رواقٌ رحْبٌ مُزركَشٌ بإتقانٍ يُفضي إلى ساحةِ الدّار التي تفتحُ إليها ثلاثةُ بيوتٍ، لكلِّ بيتٍ بابٌ وشُبّاكانِ. وقد أحاطَ بكلِّ بابِ وشُبّاكٍ منها إطارٌ مِن الخزفِ النّابليّ الجميل. استقبلَنا أعضاءُ جمعيّة "أسبيس" المُشرِفُونَ على تنظيمِ الحفلِ بحفاوةٍ وجعلونا في مكانٍ أماميٍّ ورحّبوا بنا بما نحنُ أهلُهُ وزيادةٌ مِن كرَمِ الضِّيافةِ وحُسنِ القبولِ والوِفادةِ.

في الرّكن الشّرقيّ من فناء الدّار انتصبت فرقة موسيسقيّة من الأطفال والشّباب بقيادة الأستاذ سليم الهوّاريّ. وكانت تعزف ألحانًا لمقاماتٍ موسيقيّةٍ تونسيّة، وقد امتزجت هذه الألحانُ بتراتيل صلاة التّراويح المنبعثة من صومعة جامع "سيدي بوضاوي" المذكور. وفي الرّكن الغربيّ المقابل جلست بناتُ الشّهيد عبد العزيز الخوجة. على خُطوطِ وُجوهِهِنَّ مزيجٌ نادِرٌ مِنْ ملامِحَ تُركيّةٍ وعربيّةٍ لمْ يُفْلِح الزَّمَنُ المُتقادِمُ في إخفائِها بين خُطوطِ التّجاعيدِ. أجسادٌ مُثْقَلَةٌ بِما حُمِّلْنَهُ مِن ذاكرةٍ جريحةٍ تَسَعُ الأرضَ والسَّماءَ، ومِنْ أتعابِ طُفولةٍ قاسِيةٍ عِشْنَها في غيابِ أبٍ عاطِفٍ قتَلتْهُ يدُ الغدْرِ في آخِرٍ يومٍ مِنْ شهرِ جانفي 1952، فتركتْ في النُّفوسِ لوعةً لا تنتَهِي.

المداخلة الأولى التي ألقاها الأستاذ محمّد الصّادق بن عبد اللّطيف كان كافِيةً لنزول الدّمعِ مِدْرارًا مِنْ أعيُنِ بناتِ الشّهيدِ وجريانِه بين ثنايا تلك التّجاعيدِ. فقد تحدّث فيها بعاطفةٍ قويّة عن ملحمتِه النّضاليّة وتضحياتِه مِن أجل الوطن والاستقلال وإيمانِه القويّ بحزب الدّستور ودفاعِه المستميتِ عن زعيمِه "الحبيب بورقيبة" وصولا إلى حادِثةِ اغتِيالِه مع زميلِه في الكفاح "حمّادي الغربيّ". ثمّ تلت ذلك مداخلات: الأستاذ محمّد البلاجيّ والسّيّدة نعيمة الخوجة التّونسيّ ابنة الشّهيد والشّيخ حمدة الانقليز والسّيّد امحمّد الدّريديّ قائد الكشّافة بقليبية. وقد كانتْ كُلُّها مُجْمِعةً على وطنيّة الشّهيد ومحبَّتِه للبلادِ والعِباد، وللأرض التي نشأ بها ونذر فيها نفسَهُ مِن أجلِها. كما أجمعتْ أيضا على الفراغِ الهائلِ الذي أحدثَهُ غيابُهُ المُفاجِئُ بين أهلِهِ وناسِه وذَويهِ إلى اليوم.

جمعيّة "أسبيس" Aspis بقليبية

جمعيّة "أسبيس" التي تكوّنت حديثا في قليبية، يعودُ فضلُ تأسيسِها إلى نُخبةٍ مِن مُثقَّفي المدينة الذينَ حرَّكتْهُم الحميّةُ الوطنيّةُ والاعتزازُ بالانتِماءِ إلى هذه المدينة السّاحليّة التّونسيّةِ الزّاخِرةِ بالتّاريخِ والحضارةِ والجمالِ، والذينَ عَزَّ عليهِمْ أنْ يتمكَّنَ مِنها الإهمالُ والنّسيانُ واللاّمبالاةُ فيجعَلَها غُفلاً عن التّعريفِ. وقد اختارت الجمعيّةُ عن طريقِ مُؤسِّسيها (نجلاء بوريال عضو المجلس الوطنيّ التّأسيسيّ- محمّد البلاجي- محمّد الصّادق بن عبد اللّطيف وخليل البلاجي وغيرهم...) أنْ يكونَ مِن أهدافِها الأساسيّةِ التّعريفُ بقليبية وخصائصِها الثّقافيّة والتّاريخيّة والحضاريّة، وهو ما تَدُلُّ عليه التّسميةُ التي أُطلِقتْ على الجمعيّة. فـ"أسبيس" هو اللّفظُ الذي  سمّى به الإغريقُ قليبية منذ عهودٍ قديمةٍ. وهي كلمةٌ تعني في ما تعنيه باليونانيّة: "الدِّرْع" أو "المِجَنّ" (Bouclier) على اعتبارِ ما يُميّز قليبية وقلعتَها التّاريخيّة من مَنَعَةٍ وشُموخٍ على امتدادِ الأحقابِ والعصور. وقد سمَّى القائد اليونانيّ "أغاتوكول سَرَقُوسَةَ" (Syracuse Agathocle de) القلعةَ يومَ احتِلالِها باسم "أسبيس"(2). أمّا تسمية "قليبية" فهي محاكاة عربيّة لكلمة "كلوبيا" اللاّتينيّة (Clypea  أو  Clupea) التي تعني أيضا "الدّرع"، وقد ظهرت هذه التّسمية إلى الوجود في العهد الرّومانيّ البيزنطيّ (533- 647 م).

اختارت جمعيّة "أسبيس" أن تبدأ أنشطتَها الصّيفيّةَ بِتكريم الشّهيد عبد العزيز الخوجة تحت عنوان: "لمسة وفاء إلى روح شهيد قليبية عبد العزيز الخوجة". وهو النّشاط الثّاني لها منذ تأسيسِها. فقد قامت يوم الأحد 27 مارس الماضي بتكريم الشّاعر نور الدّين صمّود والموسيقار الشّابّ وائل صمّود. كما اختارت أن يكونَ هذا اللّقاءُ في منزل الشّهيد بقليبية تكريما لروحِه ووفاءً لنضالِه مِن أجل الحرّيّة والاستقلال.

سيرة صاحب "القشابيّة"

لم أكُن أعرِفُ شخصيّةَ صاحِبِ الدّارِ قبل قُدومي إلى تظاهرة التّكريم إلاّ خبَرًا ونقلا عن كبارِ السّنّ. وقد سألتُ منذُ سنواتٍ بعضَ الأخباريّين الذين يحفظون أخبار الحركة الوطنيّة في جهة قليبية عن شخصيّة عبد العزيز (شهر عزيّز) الخوجة فارْتسمتْ لها في ذهني صورةٌ غيرُ مُكتمِلةٍ. وأهمُّ ما عَلِقَ بذهني آنذاك هو أنّه كان مسؤولا عن التّنسيق بين المقاومين والمناضلين بين قليبية وحمّام الأغزاز وأزمور والشّرف وغيرها من المدن والقرى المُحيطة بقليبية، وأنّه كان معروفا أيضا بـ"قشابيّتِه الحنايشيّة"، أي قشابيّة ذات خطوط سوداء وبيضاء، وكانت قُبّعتُها مائِلةً دائِمًا. فهي لِباسُه الذي يُميِّزُه من النّاس في المظاهرات والاجتماعات والاحتفالات وغيرها...

كما لم تَكُن رحلةُ العودةِ إلى ذاكرةِ شهيد قليبية "عبد العزيز الخوجة" أمرا هيِّنا كما كُنّا نتوقّع. فبرغمِ الأثرِ العظيمِ الذي خلَّفتْهُ مسيرتُه النّضاليّةُ على أرضِ قليبية، وبرغمِ الدّويّ الهائلِ الذي تركَتهُ في أرجاءِ سمائها، وبِرغمِ المحبّة التي تطوي لهُ عليها صُدورُ أهاليها إلى اليوم، فإنَّ عمليّة التّوثيق وجمع المعلومات في شأنه كانت عسيرَةً، لقلّتِها أوّلا ولتفرُّقِها وتشتُّتِها بين صفحاتِ الجرائدِ القديمة ووثائق الأرشيف الوطنيّ، وبين الرّصيد الشّفويّ الذي ما زال عالِقًا بذاكِرةِ العائلةِ أو بحافِظةِ بعضِ كبارِ السّنّ في قليبية مِن مُعاصِريه.

أمّا الصُّحُفُ فلم نعثُرْ له فيها على أثرٍ إلاّ ما كان مُوَثَّقًا على صفحاتِ جريدة "الحرّيّة" (ثمّ "لواء الحرّيّة" في ما بعدُ) التي كان الدّستوريّون ينشرون فيها أخبارَهم وتحرُّكاتِهم بعد منعِ جريدتِهم الرّسميّة "العمل"، وتحديدًا في المُدّة الفاصلة بين سنتيْ 1948 و1951. وهما في الحقيقةِ مقالانِ يتيمانِ: الأوّلُ بتاريخ يوم الأحد 1 أكتوبر 1950 يحمل عنوان: "لجنة الدّفاع عن مصالح السّكّان بقليبية" وفيه إعلان عن تشكُّل هذه اللّجنة برئاسة صاحِبنا السّيّد "عزيّز بن عليّ الخوجة".

والمقالُ الثّاني مؤرَّخ في يوم الأحد 22 أكتوبر 1950 يتعلّق بتعريف تلك اللّجنة وبيانِ أهدافِها ومهامِّها. وهي أهدافٌ ومهامُّ تجمع بين الصّحّيّ والاجتماعيّ والتّعليميّ والأخلاقيّ... في مزيجٍ عفويّ وطريفٍ. فهي تسعى إلى "التّخفيف عمّا يلحق الفقراءَ من تعاسة المرض ومكافحته بما تقدر عليه من سلاحٍ حتّى يتمكَّنَ الفقيرُ المسكينُ من مقاومةِ المرضِ بما تُسعِفُه به لجنةُ الدِّفاعِ عن مصالح السّكّان". كما تسعى في جُملةِ ما تسعى إليه أيضا إلى "تولّي الدّفاع بقدر الإمكان عن بلدةِ قليبية، ولِتُنبِّه أولي الأمرِ بوجوبِ نظافتِها وقطعِ بيع الخمر للمُسلمين !! والاهتمام بتعليم الأطفال وإلفات نظر إدارة العلوم والمعارف إلى الحالة السّيّئة التي عليها ناشئةُ قليبية، وإلى وجوبِ نقلِ الصّبية المزاولين للتّعليم إلى محلاّتٍ صالِحةٍ من النّاحية الصّحّيّة ونقلهم من تلك السّقائف والقراجات ولما يلحق الأهالي من تعدّيات المُعتدين وتعسُّف المُتعسِّفين".

ولم يكن النّضالُ ذا طابعٍ اجتماعيّ وخيريٍّ فحسب، بل كان نضالا وطنيًّا متكامِلا. ففي المظاهرة المشهودة التي شهدتها قليبية كغيرِها من المدن في كافّة أنحاء تونسَ يوم 24 جانفي 1952 احتِجاجًا على اعتقالِ الزُّعماء، كان صاحِبُ "القشابيّة" في مقدِّمتِها مع "حمّادي الغربيّ" يقودانِها من "الحومة الحمراء" إلى "المراح" بوسط قليبية لتجتمِعَ هناك مع مظاهرة حمّام الأغزاز ومظاهرة أزمور وغيرهما. ثمّ خطب فيهم القائدُ الثّالثُ "صادق مجدوبة" خطابا حمّاسِيًّا ألهبَ مشاعِرَ المتظاهرينَ، ففاضَ طوفانُ النّاسِ على الحواجِز التي وضعها الجندرمة أمام مركزِهم فحطّموها وهجموا عليهم بالحجارة والسّلاح الذي لم تحسُبْ له السّلطة الفرنسيّةُ آنذاكَ أيَّ حسابٍ نتيجةَ العمل السّرّيّ الذي يقودُه حزبُ الدّستور.

نهاية المسيرة

أمّا الأرشيفُ الوطنيّ التّونسيُّ فقد حفظ لنا وثيقةً (3) يبدو أنّها مقتطفةٌ من التّقرير الذي أعدّتهُ لجنة "الطّاهر بن عمّار" حول الفظاعات التي ارتكبها جُندُ اللّفيف الأجنبيّ التّابع للجيش الفرنسيّ في الوطن القبليّ بعد قمعِه لثورة التّحرير الوطنيّة (18 جانفي 1952) وتحديدا للمظاهرة المذكورة. وتروي هذه الوثيقةُ تفاصيلَ استشهاد بطلَيْ الثّورة في قليبية بدون منازعٍ عبد العزيز بن عليّ الخوجة وحمّادي بن حسين الغربيّ، بعد اعتقالِهما معا يوم 31 جانفي 1952.

تقول الوثيقة: تمّ إيقافُ عزيّز بن عليّ الخوجة (38 عاما وأب لسبعة أطفال) في منزله يوم 31 جانفي 1952 من قِبل عونَيْ الشّرطة "ساسي" و"ع- ش". أمّا العون "ساسي" فقد قال له: "تعالَ معنا، الكاهية يُريدُك". وفي الطّريق سُمِعَ وهو يقول له أيضا: "لقد قدّمتَ ضدّي شِكايةً منذُ مُدّةٍ، وفي هذه المرّة سنتدبَّرُ أمرَكَ". وبعد ذلك اُقتِيدَ إلى مركز الشّرطة، ثمّ رآه بعضُ النّاسِ وهو خارِجٌ منه صحبةَ حمّادي بن حسين الغربيّ (26 عاما). وقد قادهما قائد الشّرطة "بامبينا" Bambina إلى مركز الجندرمة حيث تعرّضا إلى العنف والإهانة. وبعد ساعةٍ تمّ إخراجُهما وقد بدتْ على وجهيْهِما حالةٌ من الذّهول والرّعب. أركبَهما عون جندرمة على سيّارة وجلس حذوهما، أمّا "بامبينا" فقد قادَ بنفسِه السّيّارةَ إلى مكانٍ خارج البلد يُسمّى "دُوّيرة الإمام" حيثُ تمّت عمليّةُ قتل الشّهيديْن. وقد شاهدَ أحدُ المُزارِعين هناك عمليّةَ اغتيال الخوجة ثمّ ولّى هارِبًا.

كما تُضيف الوثيقةُ أيضا أنّ عون الأمن "فارينا" Farina قد حملَ جُثّتَيْ الشّهيديْن على شاحِنةٍ قادَها بنفسِه إلى مركز الشّرطة، وهي شاحنة على ملك أحد سكّان الهواريّة. ثمّ خاطب شيخ قليبية قائلا: "هناك جُثّتانِ عليكَ نقلُهُما وتسليمُهما إلى ذويهِما لدفنِهما". وقد أوصاهُ بالصّمتِ التّامّ.

غيرَ أنَّ الصّمتَ عن الجريمةِ لم يَدُمْ طويلاً، فسرعان ما سَرَتْ ثورةُ التّحرير في كلِّ أنحاءِ تونِسَ، وأتتْ أُكلَها بعد عامَيْن أو ثلاثةٍ وأسفرت عن الاستقلال الدّاخليّ فالاستقلال التّامّ. وبقِيَ عبد العزيز الخوجة وحمّادي الغربيّ رَمْزَيْن للوطنيّة الصّادقة والتّضحية من أجل الأرض والعِرض في قليبية. وهاهي قليبية تَعودُ اليومَ إلى ذاكرتِها وتُحيِي ذِكرَى عبد العزيز الخوجة بعد أربعةٍ وسِتِّينَ عامًا من استِشهادِه.
______________________
(1): يُنسَب هذا المسجد إلى سيدي أبي بكر الضّاوي، وهو صاحب الزّاوية الموجودة هناك. وكان هذا الجامع يُسمّى حسب الوثائق التي تبيّن أحباسَه "جامع السِّرّ". (عبد الرّحمان بن عبد اللّطيف: صفحات من تاريخ قليبية، ص 39- 40 و45)
(2): مجلّة "أسبيس" (دار الشّباب قليبية) العدد الأوّل سنة 2004. (صفحة التّقديم).
(3): الأرشيف الوطنيّ التّونسيّ: الحركة الوطنيّة 56/3.

dimanche 29 mai 2016

الرّسّام رؤوف قارة: رحلة النّورس و"البوسيدونيا"

الرّسّام رؤوف قارة
رحلة النّورس و"البوسيدونيا"





يقول الشّاعر عبد الباسط بن حسن، وهو شاعرٌ قبل أن يكونَ رئيسًا للمعهد العربيّ لحقوق الإنسان، يقول في قصيدته "احتباس" المنشورة ضمن ديوانِه: "تجري في عيون أوقاتِنا"[1]:

"سنسبح اليومَ في هذا البحرِ الخريفيّ،
قال رؤوف قارة
وهو يُلوّح لي بـ "مايوه" عجيب
يَسَعُ كلَّ البحار".

ثمّ يكتب الشّاعرُ ملاحظةً في هامش الصّفحة للتّعريف برؤوف قارة قائلا: "هو رسّامُ حالات البحر في تونس". وهو أوجَزُ تعريفٍ قرأتُه لرؤوف. ولستُ أدري هل سيفرح رؤوف بهذا الإيجازِ في التّعريف إن قرأه؟ أم سيسخط عليه ويعتبرُه مُخِلاًّ؟ إذ هل يُعقَلُ أنْ تُختصَرَ تجربتُه الفنّيّةُ الكبيرةُ وتُقيَّدَ بكلمتيْن أو ثلاثٍ؟
ومهما يكنْ من أمرٍ فإنّ جولاتِ رؤوف وسباحاتِه في شواطئ قليبية وحمّام الأغزاز كثيرةٌ لا تُحصَى، وهي ليست خريفيّةً فقط كما يمكن أن نفهمَها من القصيدة، بل هي مستمرّة كالحياة، خريفيّةٌ وشتويّةٌ وربيعيّةٌ وصيفيّةٌ... ولعلّها تتمُّ أيضا في فصولٍ أخرى لا نعرفها، وفي حالات بحريّة ليس يقدِرُ على فهمِها سوى رؤوف، رسّام حالاتِ البحر في تونس، وصاحب "المايوه" الذي يَسعُ كلَّ بحار العالم.
قد يكونُ اختيارُ الشّاعِر لزمنِ الخريف اختيارًا اعتباطيًّا. ولكنَّ جولة رؤوف مع الشّاعر هنا كانت حتمًا ذاتَ خريفٍ. يزيدُ من تحقيق ذلك وتأكيدِه وُجودُ قرينتيْن في نصّ القصيدة دالّتيْنِ عليه، مانِعتَيْن مِن إرادةِ أيِّ فصلٍ آخرَ، إذ يُواصل عبد الباسط قائلاً:

"على شاطئ حمّام الأغزاز
أعشابٌ بحريَّةٌ مُرهَقَةٌ
صيّادونَ يَختبِرونَ لُغاتِ الصّبر
ورِمالٌ تنتَظِرُ مثلَ كلِّ يومٍ وداعَ القواربِ".

القرينةُ الأولى الدّالّةُ على الخريف هي "الأعشابُ البحريّةُ المُرهَقةُ" التي تخرج في ذلك الفصلِ بكمّيّات هامّة، وهي بالتّحديد نبتةُ "الضّريع". والقرينة الثّانية هي أولئك "الصّيّادون" الذين "يختبرونَ لُغاتِ الصّبرِ". والمقصودُ بهم هنا هم صيّادو "الطّرّاح"[2] الذين يرقبون أسماك "المجّل"[3] التي تهجُم مثل "الضّريع" في كلّ خريفٍ.

رؤوف و"الضّريع" La posidonie (Posidonia oceanica) 

الضّريع (أو البوسيدونيا) هو نبات بحريّ خاصّ بالبحر الأبيض المتوسّط دون غيره من البحار، والعُهدةُ في ذلك على أهل العلمِ والذّكرِ الذين نقلوا إلينا هذه المعلومةَ. ومثله في البحر كمثل شجرة الزّيتون في البرّ، كلاهما مرتبط بالجغرافية المتوسّطيّة. وقد ذُكرت هذه النّبتة (أو على الأقلّ بهذا الاسم) في القرآن باعتبارها غذاءً عديمَ القيمة: "ليس لهم طعامٌ إلا من ضريع، لا يُسمِنُ ولا يُغنِي مِنْ جُوعٍ" (الغاشية: 6- 7). واختلف المفسّرون في تحديد هذه النّبتة، فمعظمهم اعتبرها نباتا برّيًّا، لكنّنا نجد روايةً يتيمةً منفرِدةً عن ابن عبّاس أوردَها القرطبيّ في تفسيرِه، تقول: "هو شيء يرمي به البحرُ، يُسمّى الضّريع، من أقوات الأنعام لا النّاس، فإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع، وهلكت هزلاً"[4]. وربّما كانَت تسميةُ تلك النّبتة البحريّة بالذّات بـ"الضّريع" قياسًا على نبتة البرّ في كلّ نباتٍ لا حاجَةَ للإنسانِ به، وهو "لا يُسمن ولا يُغني من جُوعٍ".
ولعلّ انفرادَ القرطبيّ في إيرادِ هذا التّفسير البحريّ للكلمة يرجع إلى بيئتِه الأندلسيّة، فهو اسبانيّ متوسّطيّ قبل أن يكون رجلَ دينٍ مُفسِّرا للقرآن، ومدينة قرطبة التي وُلد بها في القرن الثّالث عشر الميلاديّ لا تبعد عن البحر المتوسّط كثيرا.
عندما يستوي "الضّريعُ" على سُوقِه في أعماقِ المتوسّط، يكونُ ذا لونٍ أخضرَ لامِعٍ، لكنّه يذبُل تدريجيّا في فصل الصّيف فيفقد اخضرارَه ونضارتَه وصلابتَه شيئا فشيئا إلى أن يُصبِحَ أسودَ أو بُنّيّا يميلُ إلى السّواد. ثمّ تأتي رياحُ الخريف وتيّاراتُه البحريّةُ وأمواجُه المُزبِدةُ لتقطعَ ما وهن منه وتذهب به بعيدًا في رحلةٍ متوسّطيّة تنتهي به إلى ضفاف الشّواطئ، حيث يلفظُه البحرُ ويضعُه في شكلِ أكداسٍ كبيرة كالتِّلال. يحدُث له ما يحدثُ في البرِّ لأوراق الشّجر في الخريف.
يستخدم النّاسُ في الوطن القبليّ "الضّريع" بعد أن يتكدَّسَ على الشّواطئ ويجفَّ تحت الشّمس والهواء، وذلك في بعض الحاجيات والأغراض، كتخزين أكداس البطاطا أو ملء الحشايا والوسائد والسّروج ونحوها...أمّا رؤوف قارة فله فيه مآرِبُ أخرى...

يقولُ العلماءُ (والعُهدَةُ دائما عليهم) أنّ "الضّريع" يكوّن نظاما بيئيّا له على الإنسان والحيوانِ والأرضِ أفضالٌ كثيرة، فهو يساهم في تخزين الكاربون وحماية الشّواطئ من الانجراف. كما يجدُ فيه السّمكُ طعاما سائغًا وملاذًا آمِنا يضعُ فيه بيضَه، لتستمرَّ الحياة...
تتكوّن النّبتة الملتصِقةُ بحجارة الأعماق من جذاميرَ (جمع جُذمور Rhizome) وهي سوقٌ (جمع ساق: Tige) ملتحِمةٌ بالقاعِ أُفُقيًّا وتشُدُّها بالأرضِ جذورٌ من ناحيتِها السُّفلَى، متفرِّقةٌ على امتداد هذه السّوق، ومِن ناحيتِها العُليا تنبُتُ الجذوعُ التي تخرُجُ منها الأوراقُ الخضراءُ. أمّا الجذوعُ فتذبلُ وتسقُطُ ويكونُ مصيرُها كالأوراق، وتُسمَّى عندنا "القبيون" بالقاف المعقودة. وأمّا الجذاميرُ فتموتُ ولكنّها تبقى عالقةً بالأرضِ، ثمّ تتحجّرُ بفعل تراكم طبقةٍ مِن رمل الصّوّان عليها (La silice)، وتصبح بعد آلاف السّنين أحافيرَ أو مُستحاثاتٍ (Fossiles) يلتقِطُها رؤوف ويعيدُ تجميعَ ما تناثر منها وتكسّرَ، فتتشكّلُ عملا فنّيًّا خالدا خلودَ الحياةِ المُستمرّة...
"البوسيدونيا" لم تعدْ عديمةَ الفائدة إذن، فهي تُسمِن وتُغني مِن جُوعِ الفنّانِ وشهوتِه وإنْ تحجّرت وطالَ انتظارُها آلافَ السّنين.

النّورسُ المكسور الجناح:
يستخدِم عبد الباسط بعد ذلك كلمةَ الجوعِ في قولِه:
"وذلك النّورسُ المريضُ
لم يهربْ عند قُدومِنا.
في أجنِحتِه المُنكسِرةِ ماتتْ تهويماتُ ذاكِرةِ الفضاء.
سنحمِلُه إلى السِّباخِ يلتقِطُ قُوتَهُ،
قال رؤوف بطِيبتِه التي اختَبرتْ جُوعَ الألوانِ.
ولكنْ في حشرجاتِ النّورس المُحتضِر
ذاكِرةُ لغات صحبة
وعزاء".

ففي الرّحلة الخريفيّة، الكُلّ راحِلٌ ومُرْهَقٌ في رحيلِه. الشّاعِرُ والرّسّامُ و"البوسيدونيا" (أو الأعشابُ البحريّةُ المُرهقةُ التي قطعت آلافَ الكيلومترات والسّنين)، وصيّادو "الطّرّاح" أتعبهمْ الصّبرُ والانتظارُ، وأخيرًا النّورسُ الجريح الذي رأى فيه رؤوف نفسَه حينما "تجوع للألوانِ"، فأشفقَ عليه واقترحَ حملَه إلى السّبخة ليلتقِطَ قوتَه لعلّه يتعافى فينطلقُ مواصِلا رحلتَه.
إنّ طيورَ النّورسِ تخرُجُ من وُكُناتِها فجرًا في جزيرةٍ من جُزُر اليونان أو إيطاليا أو لعلّها زمبرة أو زمبرتا أو جالطة... فتطوفُ آلافَ الكيلومتراتِ بحثا عن قوتِها وقوتِ فراخِها، ثمّ تعودُ في آخرِ النّهارِ بعد انتهاء الرّحلة إلى حيثُ كانت.

يقولُ لنا العُلماءُ (والعُهدة على الويكيبيديا الفرنسيّة هذه المرّة) إنّ طائرَ النّورس تعود تسميتُه الفرنسيّة (Goéland) إلى كلمة ( gwelan أو  gouelañ) وهي في اللّغة البريتانيّة السّلتيّة بجنوب فرنسا تعني (بَكى : Pleurer)[5] فلعلّه سُمّي كذلك لأنّه مجبولٌ على البكاء وصوتُه كأنّه النّحيبُ. وقد اختار الشّاعرُ كلمة "حشرجة" وهي كما جاء في المعجمِ من فعلِ "حشْرَجَ: ردَّدَ نَفَسَهُ في حَلْقِه. ويُقال: حشرجَ المُحتضَرُ عند الموتِ"[6]

لا أدري لماذا ذكّرتني صورةُ رؤوف مع النّورس الجريح بصورةِ الشّاعر عنترة بن شدّاد مع جوادِه الجريح في المعلّقة رغم الاختلافات الممكنة بين العالميْن:

فاِزْوَرَّ  مِنْ  وَقْعِ  القَـــنا  بِــــلَبَانِـه       وشكا  إليَّ  بِعبرَةٍ  وتحمْحُمِ
لو كانَ يَدْرِي ما المُحاورَةُ اِشْتَكَى        وَلَكَانَ لَوْ عَلِمَ الكلامَ مُكَلِّمِي

لكنّ رؤوفا فهمَ جيّدا محاورةَ النّورسِ واستبطنَ مشاعرَه وعرفَ قصدَه ومرادَه وشكواهُ. فكلاهما مسافِرٌ ومُرتحِلٌ ومُحلِّقٌ في سماء الحرّيّة. ولا يمكنُ السّفرُ والرّحيلُ في غياب الجناحيْن. لا سفَرَ إلاّ بالجناحيْن. ولا حياةَ إلاّ بالحرّيّة.

سافرَ رؤوف قارة واقتفَى آثارَ النّورسِ من "شبه جزيرة" الوطن القبليّ إلي جُزر البحر الأبيض المتوسّط، من إيطاليا واليونان واسبانيا، ثمّ سافر إلى ألمانيا، وأقامَ ستّةَ أشهرٍ من عمرِه في جُزرِ اليابان. وقد نهل في كلّ مكانٍ يحُطُّ به من معينِ الفنّ، فغاصَ في أعماقِهِ وصعِدَ في عليائهِ وسكرَ من نبيذِه، وخبرَ مشارقَ الأرضِ ومغاربَها وسبرَ ألوانَها وأشكالَها، ونصبَ بها راياتِ لوحاتِه الفنّيّةِ وأعلامَها. ثمّ عادَ إلى "شبه جزيرتِه" ليجِدَ "البوسيدونيا" تنتظِرُه من آلافِ السّنين، وقد تحجّرت بفعل الصّبرِ والانتظارِ. تنتظرُه ليُعيدَ تشكيلَها من جديد فتواصِلَ رحلتَها الخالدة وتحلّق في سماء الفنّ، لأنّ الحياةَ يجبُ أن تستمرَّ...

جلسْتُ في ورشةِ رؤوف قارة المُطلّةِ على ميناء قليبية. أمامي الحاسوبُ وسفنُ الصّيد الدّاخلة والخارجة. بدأتُ أكتبُ هذا المقالَ ورؤوف في مكانٍ آخرَ من الورشةِ منشغِلٌ بإعدادِ لوحاتِه التي سيُشارِكُ بها في معرضٍ من معارِضِه. وهو لا يعرِفُ أنّي بصددِ كتابةِ هذا المقال، لأنّه في ذلك الوقتِ يُحلِّقُ كالنّورسِ عاليا في سماءِ فنِّه. وكانت الأغنيةُ التي نستمعُ إليها معا هي أغنية محمّد عبد الوهاب: "النّيل نجاشيّ" التي تقولُ في ما تقولُ:

"جات  الفلوكة والملّاح       ونزلنا وركبنا
حمامة بيضا بفرد جناح      تودّينا وتجيبنا
ودارت الألحان والرّاح     وسمعنا وشربنا
صلّحلي قلوعك يا ريّس
هيلا هوب هيلا".
مزار بن حسن



[1]   منشورات الجمل بغداد- بيروت 2015 ط1، ص 20- 21.
[2]  الطّرّاح (بالفرنسيّة:  Epervierبالإيطاليّة:  Rezzaglio وبالاسبانيّة: Esparavel) آلة صيد شبكيّة قديمة ومنتشرة في كثير من بلدان العالم بأشكال مختلفة. وتتشابه أشكالها وطرق استخدامها في سواحل المتوسّط. وهي من عادات سكّان بعض المناطق السّاحليّة في تونس وتقاليدهم الموروثة. ويخضع صيد الطّرّاح قانونيّا إلى ما يُسمّى: الصّيد البحريّ وقوفا على الأرجل " la pêche à pieds" باستعمال الشّباك، المنصوص عليه بالفصل الخامس من القانون عدد 13 لسنة 1994 مؤرخ في 31 جانفي 1994 يتعلّق بممارسة الصّيد البحريّ.
[3]  خلال منتصف شهر أكتوبر من كلّ سنة ينطلق موسم صيد "المِجّل"  Mugil وهو سمك يعيش على امتداد سواحل البحر الأبيض المتوسّط، وينتمي إلى فصيلة البوريّات: Mugilidae وتُعتَبَر الطّرّاح قديما الوسيلةَ المثاليّة لصيدِه، قبل أن يتطوّر الصّيد البحريّ وتتطوَّرَ معه أدواتُه. ورغم تناقص كمّيّات المجّل التي تمرّ عبر شريطنا السّاحليّ من سنة إلى أخرى نتيجة الصّيد العشوائيّ والتّلوّث... فإنّ "الطّرارحيّة" ما زالوا أوفياء لموعدهم الخريفيّ مع هذه السّمكة.
[6]  المعجم الوسيط: مجمع اللّفة العربيّة.